يعود تاريخ التقية إلى اللحظة التي أحسّ فيها الإنسان بعجزه عن درء الخطر عن نفسه أو عن معتقده، ولم يكن ثمة ما يبرر مواجهة الخطر أو مقاومته، وهي فترة موغلة في القدم بقدم وجود الإنسان على الأرض، ذلك لأن للإنسان حالات طبيعية تعتريه ومنها الخوف. وهو أحد الحالات التي جبلت عليها فطرة الإنسان، ويستوي فيها جميع بني البشر لا يشذ عنها أحد، إلاّ أولئك الذين زوّدوا بطاقات خاصة وكفاءات معينة أمكنتهم من الوقوف على أسرار الكون والعلم بحقائق الأشياء، وكانوا في كل حركاتهم وسكناتهم مع الله تعالى، وهؤلاء لا يعتريهم ما يعتري سائر البشر من الاضطراب النفسي والقلق وعدم الاطمئنان، وإذا كان هؤلاء يخافون فإنما يخافون على أمور أخر تعود إلى ما يحملون من مبادىء وقيم يخشون عليها من أن تقع في غير مواضعها فيساء استغلالها، ويتمثل هذا المعنى في الصفوة المنتجبة من البشر وهم السفراء بين الحق والخلق فإن شأن المعصومين (ع) غير شأن سائر الناس، وإن كانوا يجرون على مقتضى السنن الطبيعية لحكم ومصالح وأسرار، وعلى كل تقدير فالخوف هو المنشأ الطبيعي للتقية.
ثم إنّ التقية بمفهومها الواسع لا تقتصر على جانب من جوانب الحياة دون آخر، بل تعم جميع ما يتخذه الإنسان من الأساليب المتاحة لـه لدفع الأخطار عن نفسه أو عن من يهمه أمره، سواء كانت الأخطار طبيعية أو غير طبيعية، فالإنسان يلجأ إلى دفع ما يتهدده من أخطار الطبيعة من حرّ أو قرّ أو جوع أو مرض أو سبع أو نحو ذلك، ويتوسل بأساليب شتى لئلاّ يقع ضحيتها بل قد يتخذ الأساليب الوقائية عن الأخطار المحتملة.
ولكن لما كانت هذه الأمور الطبيعية لا جدال فيها ولا نقاش لاتفاق البشر وغير البشر عليها اتخذ البحث عن التقية منحى آخر، وهو ما يواجهه الإنسان من أخطار غير طبيعية ناشئة عن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان في ظل ظروف اجتماعية أو سياسية معينة، كما أنها قد تكون إحدى الوسائل لإيصال المعارف الإلهيّة إلى من يصعب إفهامه إياها بصورة مباشرة.
فالتقية حالة علاجية مؤقتة قد يتوسل بها الإنسان لدفع الخطر بإظهار الموافقة وكتمان المخالفة في ظروفه الصعبة، وقد يتوصل بها لتهيئة الأذهان وإعداد النفوس لتقبّل الحقائق نظير ملاطفة الأطفال والتصابي لهم ومداراتهم، وهي إحدى الركائز الفطرية التي يستند إليها الإنسان، وكان دور الدين فيها هو الإمضاء والتقرير، بل عدها من صميم الدين وسنة من سنن الأنبياء (ع) والأولياء (ع) وأكدها القرآن الكريم في نصوصه الصريحة، وحددت كيفيتها ومواضعها الآثار الدينية الأخرى.
وإن من أقسى ما يواجهه الإنسان أن تكبّل حريته فلا يسعه البوح بما يرى ويعتقد، في الوقت الذي يكون اعتقاده حقاً ورأيه صواباً، فيضطر إلى الكتمان إبقاء على نفسه وحفاظاً على حياته، الأمر الذي يمكن معه الجزم بأن كثيراً من الحقائق قد ضاعت أو أهملت لأنها لم تعط الفرصة للظهور، ولو لم
يكن الأمر كذلك لتغير وجه التاريخ، ولكانت الإنسانية تعيش ظروفاً أفضل ممّا هي عليه.
ولما كان موضوع التقية يتسع للكثير من القول آثرنا الحديث عنها ـ في هذه المقدمة ـ من وجهتها التاريخية لأن هذا الجانب هو أقوى ما تثبت به السيرة العملية ـ أي من خلال سيرة الأنبياء والأولياء (ع) ـ التي هي أحد الأدلة المسلّمة والمتّفق عليها عند المسلمين. وليس الغرض إلاّ التأكيد على صحة ما هو ثابت من مذهب أهل البيت (ع) من أمر التقية، وإقامة الحجة على من خالفهم واتهمهم زوراً وبهتاناً، إما لقصور في الإدراك أو لاعوجاج في السليقة، وعدم الفهم الصحيح لأصول الدين وأحكامه. ويمكننا تقسيم البحث إلى قسمين رئيسين:
الأول: التقية قبل الإسلام.
الثاني: التقية بعد الإسلام.
ذكرنا أن التقية تعود إلى فترة موغلة في القدم وأنها بدأت مع شعور الإنسان بعجزه عن مواجهة الخطر، ولإثبات هذا الأمر نستعرض جملة من النصوص الدينية والتاريخية تؤكد هذه الحقيقة، وسنعتمد فيما نذكر من الأدلة والشواهد على الآيات القرآنية، وعلى ما أثر من الروايات، والحوادث التاريخية الواردة من طرق الشيعة والسنة حتى لا يبقى مجال للتوهم والإرتياب في حقيقة التقية ثبوتاً وإثباتاً:
إنّ أول جريمة قتل سُفِك فيها الدم الحرام هي الجريمة النكراء التي قتل الأخ فيها أخاه حسداً وعدواناً، وقد تحدّث القرآن الكريم عن تلك الواقعة فقال تعالى: ﴿واتلُ عليهم نبأ ابني آدم إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنّك قال إنما يتقبل الله من المتقين * لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين * إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين * فطوعت لـه نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين﴾ (1) .
كما تحدّث التاريخ عن هذا الحدث، وكشفت الروايات عن كثير من ملابساته، وقد نصّت على أن هابيل كان وصياً لآدم (ع)، وبعد شهادته انتقلت الوصية إلى أخيه شيث ـ وتفسيره هبة الله(1) ـ ، وكان هذا الأخير أول من مارس التقية خوفاً من بطش قابيل وعدوانه.
روى القطب الراوندي في قصص الأنبياء بإسناده عن محمّد بن سنان عن إسماعيل بن جابر عن عبد الحميد بن أبي الديلم عن أبي عبد الله (ع) قال: إن قابيل أتى هبة الله (ع) فقال لـه: إن أبي قد أعطاك العلم الذي كان عنده، وأنا كنت أكبر منك وأحق به منك، ولكن قتلت ابنه فغضب علي فآثرك بذلك العلم عليّ، وإنك والله إن ذكرت شيئاً مما عندك من العلم الذي ورثك أبوك لتكبر به عليّ وتفتخر عليّ لأقتلنّك كما قتلت أخاك، فاستخفى هبة الله بما كان عنده من العلم لتنقضي دولة قابيل، ولذلك يسعنا في قومنا التقية لأن لنا في ابن آدم أسوة(2) .
ورواها صاحب البحار عن قصص الأنبياء بسند صحيح إلى هشام بن الحكم وفيها: فحدّث هبة الله بالميثاق سراً، فجرت السنة والله بالوصية من هبة الله في ولده يتوارثونها عالم بعد عالم، فكانوا يفتحون الوصية كل سنة يوماً . الحديث(3) .
وفي رواية أخرى عن قصص الأنبياء أيضاً بإسناده عن زرارة مثله، وزاد فيه: ثمّ قال أبو عبد الله بيده إلى فمه فأمسكه، يعلمنا أي هكذا أنا ساكت، فلا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة معشر شيعتنا فتمكّنوا عدوكم من رقابكم فتكونوا عبيداً لهم بعد إذ أنتم أربابهم وساداتهم، فإن في التقية منهم لكم ردّاً عما قد أصبحوا فيه من الفضائح بأعمالهم الخبيثة علانية، وما يرون منكم من تورعكم عن المحارم وتنزهكم عن الأشربة السوء والمعاصي وكثرة الحج والصلاة وترك كلامهم ... (4) .
وجاء في كتاب مختصر بصائر الدرجات بسند صحيح إلى هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (ع) قال: أوصى آدم إلى هابيل فحسده قابيل فقتله، ووهب الله لـه هبة الله وأمره أن يوصي إليه وأن يسرّ ذلك، فجرت السنة في ذلك بالكتمان والوصية، فأوصى إليه وأسر ذلك، فقال قابيل لهبة الله: إني قد علمت أن أباك قد أوصى إ ليك، وأنا أعطي الله عهداً لئن أظهرت ذلك أو تكلمت لأقتلنك كما قتلت أخاك (5) .
ونقل في كتابه المحتضر عن كتاب الشفاء والجلاء بإسناده عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (ع) قصة آدم مفصلة، إلى أن قال: أوحى الله إليه (آدم): قد انقضت نبوتك وفنيت أيامك، فانظر إلى اسم الله الأعظم وما علّمتك من الأسماء كلها وأثرة النبوة وما تحتاج الناس إليه فادفعه إلى شيث، وأمره
أن يقبله بكتمان وتقية عن أخيه لئلاّ يقتله كما قتل هابيل، فإنه سبق في علمي أن لا أخلي الأرض من عالم يعرف به ديني ويكون فيه نجاة لمن تولاه فيما بينه وبين العالم الذي آمره بإظهار ديني ... فأقبل قابيل على شيث وقال له: أين الذي دفعه إليك أبوك مما كان دفعه إلى هابيل؟ فأنكر ذلك وعلم أنّه إن أقرّ قتله، فلم يزل شيث يخبر العقب من ذريته ويبشرهم ببعثة نوح ويأمرهم بالكتمان ...(1) .
ونستفيد من هذه النصوص أنّ التقية وليدة العجز عن مقاومة الظالم أو اقتضاء المصلحة عدم مقاومته، وأنها أمر فطري مركوز في نفس الإنسان فإن التواصي بالكتمان، وفي التهديد بالقتل، وفي إنكار شيث أن يكون عنده شيء من الإرث، شواهد على أن حفظ الحق عن غير أهله، والإبقاء على النفس وحمايتها من شر المعتدي قد يقتضي مسايرة الظالم وإظهار موافقته وإن انعقد القلب على خلافه، وهذه سنة جرى عليها الأنبياء والأولياء والمصلحون، فقد روى الصدوق بسند معتبر عن أبي حمزة الثمالي ـ في رواية مفصلة ـ جاء فيها: فلبث هبة الله والعقب منه مستخفين بما عندهم من العلم والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار النبوة حتى بعث نوح ... وكذلك جرى حتى بعث الله الله تبارك وتعالى محمّد (ص) ... وكان ما بين آدم ونوح من الأنبياء مستخفين ومستعلنين ولذلك خفي ذكرهم في القرآن ... وكان بين نوح وهو الأنبياء مستخفين ومستعلنين ... فجرى بين كل نبي ونبي عشرة آباء وتسعة آباء وثمانية آباء كلهم أنبياء، وجرى لكل نبي ما جرى لنوح، وكما جرى لآدم وهود وصالح وشعيب وإبراهيم حتى انتهى إلى يوسف بن يعقوب ... ثمّ أرسل عيسى إلى بني إسرائيل خاصة فكانت نبوّته ببيت المقدس، وكان من بعده من الحواريين اثنا عشر، فلم يزل الإيمان يستتر في بقية أهله منذ رفع الله عزوجل عيسى وأرسل الله عزوجل محمداً (ص) إلى الجن والإنس الحديث(2) .
وروى الطبري في تاريخه هذا المعنى فقال: حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو داود عن يعقوب عن جعفر بن سعيد ... وذكر أن آدم (ع) مرض قبل موته أحد عشر يوماً، وأوصى إلى ابنه شيث (ع) وكتب وصيته، ثمّ دفع كتاب وصيّته إلى شيث، وأمره أن يخفيه عن قابيل وولده لأن قابيل قد كان قتل هابيل حسداً منه حين خصّه آدم بالعلم، فاستخفى شيث وولده بما عندهم من العلم ولم يكن عند قابيل وولده علم ينتفعون به(3) .
ونقله أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه المنتظم في تاريخ الأمم والملوك(4) .
وقال ابن الأثير في الكامل: ذكر أن آدم مرض أحد عشر يوماً وأوصى إلى ابنه شيث، وأمره أن يُخفي علمه عن قابيل وولده لأنه قتل هابيل حسداً منه لـه حين خصّه آدم بالعلم، فأخفى شيث وولده ما عندهم من العلم، ولم يكن عند قابيل وولده علم ينتفعون به(5) .
ــــــــــــــــــوفي ذلك دلالة على أن ممارسة التقية أمر خاضع للظروف الدائرة بين المد والجزر والشدة والضعف، ولذلك كان الاستخفاء من بعض الأنبياء والاستعلان من آخرين.
إن خليل الرحمن وهو بطل التوحيد ـ الذي وقف يقارع الشرك ويفنّد مزاعم المشركين، كما أشار القرآن الكريم إلى بعض مواقفه العظيمة في جهاده ضد الكفر والكافرين حتى ضاق به قومه ذرعاً فتآمروا على إحراقه بالنار: ﴿ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنّا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون * قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين * قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين * قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين * قال بل ربّكم ربّ السموات والأرض الذي فطرهنّ وأنا على ذلكم من الشاهدين * وتالله لأكيدنّ أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين * فجعلهم جذاذاً إلاّ كبيراً لهم لعلّهم يرجعون* قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنّه لمن الظالمين * قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم * قالوا فأتوا به على أعين النّاس لعلّهم يشهدون * قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعلهم كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون﴾ (1) ـ قد واجه في حياته من القضايا ما دفعه إلى التقية، إبقاء على حياته ودينه.
روى البخاري ـ بعدة طرق ـ قال: لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلاّ ثلاث كذبات، ثنتين منهن في ذات الله قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم، وقال: بينا ذات يوم وسارة إذ أتى على جبّار من الجبابرة، فقيل: إن هاهنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه وسأله عنها فقال: من هذه؟ قال: أختي فأتى سارة قال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني ... (2) .
وأوردها الثعلبي في قصصه وجاء فيه: إنه تخوّف إن قال: هي امرأتي أن يقتله(3) ، ورواها ابن كثير في قصص الأنبياء(4) ، ونقلها الطبري في تاريخه(5) ، وذكر نحوها أبو الفرج ابن الجوزي في المنتظم(6) .
وقال الطبري في تاريخه أيضاً : ... ثمّ خرج إبراهيم مهاجراً إلى ربه، وخرج معه لوط مهاجراً، وتزوج سارة ابنة عمه، فخرج بها معه يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربّه حتى نزل حرّان فمكث بها ما شاء الله أن يمكث، ثمّ خرج منها مهاجراً حتى قدم مصر وبها فرعون من الفراعنة الأولى، وكانت سارة من أحسن الناس فيما يقال فكانت لا تعصي إبراهيم شيئاً وبذلك أكرمها الله عزوجل، فلما وصفت لفرعون ووصف لـه حسنها وجمالها أرسل إلى إبراهيم فقال: ما هذه المرأة التي معك؟ قال: هي أختي، وتخوّف إبراهيم إن قال: هي امرأتي أن يقتله عنها، فقال لإبراهيم: زيّنها ثمّ أرسلها إليّ حتى أنظر إليها، فرجع إبراهيم إلى سارة وأمرها فتهيّأت ثمّ أرسلها إليه، فأقبلت حتى دخلت عليه، فلما قعدت إليه تناولها بيده فيبست إلى صدره ...(1) .
وقد جاء في روايات أهل البيت (ع) الإشارة إلى ذلك، فقد روى صاحب الوسائل في صحيحة أبي بصير، قال أبو عبد الله (ع) : التقية من دين الله قلت: من دين الله !! قال: إي والله من دين الله، ولقد قال يوسف: أيتها العين إنكم لسارقون والله ما كانوا سرقوا شيئاً، ولقد قال إبراهيم: إني سقيم، والله ما كان سقيماً(2) .
ويمكن تفسير ما ورد على لسان إبراهيم (ع) من قوله: إني سقيم وقوله: بل فعله كبيرهم وهكذا بالنسبة إلى قصة سارة بالتقية، فإنه أخفى دينه وعقيدته وحفظ نفسه بذلك وإن كان في صورة الإخبار بخلاف الواقع، وأما بالنسبة إلى يوسف فتفسير قوله: أيتها العير إنكم لسارقون بالتقية غير واضح وسيأتي بعض التوضيح، نعم روى الثعلبي عن كعب قال: (يوسف) لا يمكنني حبسك إلاّ باشتهارك بأمر فظيع، فقال: لا أبالي إفعل ما تريد، فقال يوسف: أن أدس صاعي هذا في رحلك، ثمّ أنادي عليكم بالسرقة ليتهيّأ لي ردّك بعد تسريحك قال: افعل ...(3) .
وروى الصدوق في معاني الأخبار بسنده عن سفيان بن سعيد قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق (ع) يقول: عليك بالتقية، فإنها سنة إبراهيم الخليل، (إلى أن قال:) وإن رسول الله إذا أراد سفراً دارى بغيره، وقال (ص): أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض، ولقد أدّبني الله عزوجل بالتقية فقال: ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم(4) .
وهذه الرواية وإن جاءت بسند ضعيف إلاّ أن فيها تأييداً لما نحن فيه.
فإذا كانت التقية سنة إبراهيم الخليل وهو أحد أولي العزم ـ في مواطن الخوف والدفاع، عن النفس ـ فما ظنك بغيره من سائر الناس؟ الأمر الذي يؤكد أن موضوع التقية يستوي فيه جميع بني البشر عند حدوث دواعيه.
ونبي الله يوسف (ع) قد مارس التقية وهو في أوج عزه وسلطانه وقد أوتي الجمال والعلم والكمال وأصبح الآمر الناهي في دولة الفراعنة و ﴿قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم﴾ (1) وقد مني بحسد إخوته وابتلي بمحن شديدة كان السجن أحب إليه وأهون مما لاقاه، وقد تحدث القرآن الكريم عن ذلك وأشارت إلى ذلك عدة من النصوص، ومنها ما رواه أبو بصير قال: سمعت أبا جعفر يقول: لا خير فيمن لا تقية له: ولقد قال يوسف: أيتها العين إنكم لسارقون وما سرقوا(2) .
وفي رواية أخرى ـ في سندها جعفر بن محمّد بن مسعود ـ عن أبي عبد الله (ع) قال: التقية من دين الله، قلت: من دين الله !! قال: إي والله من دين الله لقد قال يوسف: أيتها العير إنكم لسارقون والله ما كانوا سرقوا شيئا(3) .
وذكرنا آنفاً رواية أخرى تشير إلى هذا المعنى أيضاً، كما ذكرنا ما أورده الثعلبي وقلنا: إن وجه التقية في ذلك غير واضح.
ولكن من المحتمل أن يوسف (ع) لم يكن قادراً على إبقاء أخيه عنده بغير هذا التدبير، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وكذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلاّ أن يشاء الله﴾ (4) ، وكان يوسف (ع) آنذاك تحت قدرة الملك وسلطانه ودينه، غير أنّه بحكمته (ع) وحسن سلوكه وتدبيره استطاع أن يجعل الملك ـ بعد ذلك ـ يتراجع عن دينه ويعتنق دين يوسف (ع) ويقرّ بنبوّته ويسير بسيرته في الناس وأصبح يوسف (ع) الآمر الناهي والسيد المطاع، وقد ورد هذا المعنى في بعض النصوص، روى الطبرسي (قدس) بسنده الصحيح عن الحسن بن علي بن بنت إلياس (الوشاء) قال: سمعت الرضا (ع) يقول: وأقبل على جمع الطعام فجمع في السبع السنين المخصبة فكبسه في الخزائن، فلما مضت تلك السنون وأقبلت المجدبة، أقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق بمصر وما حولها دينار ولا درهم إلاّ صار في مملكة يوسف، وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق بمصر وما حولها حلي ولا جوهر إلاّ صار في مملكته ... وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا حر إلاّ صار عبد يوسف فملك أحرارهم وعبيدهم وأموالهم، وقال الناس: ما رأينا ولا سمعنا بملك أعطاه الله من الملك ما أعطاه هذا الملك حكماً وعلماً وتدبيراً.
ثم قال يوسف للملك: أيها الملك ما ترى فيما خوّلني ربي من ملك مصر وأهلها، أشر علينا برأيك فإني لم أصلحهم لأفسدهم، ولم أنجهم من البلاء لأكون بلاءً عليهم، ولكن الله تعالى أنجاهم على يدي، قال لـه الملك: الرأي رأيك، قال يوسف: إني أشهد الله وأشهدك أيها الملك أني قد أعتقت أهل مصر ورددت عليهم أموالهم وعبيدهم ورددت عليك أيها الملك خاتمك وسريرك وتاجك على أن لا تسير إلاّ بسيرتي ولا تحكم إلاّ بحكمي، قال لـه الملك: ذلك لزيني وفخري أن لا أسير إلاّ بسيرتك ولا أحكم إلاّ بحكمك، ولولاك ما قويت عليه، ولا اهتديت لـه، ولقد جعلتك سلطاناً عزيزاً لا يرام، وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك لـه، وأنك رسوله، فأقم على ما ولّيتك فإنك لدينا مكين أمين(1 .
لقد تحدث القرآن الكريم في العديد من الآيات عن موسى (ع) وعن مواقفه الشجاعة في مواجهة فرعون، وأشاد بمقامه وفضّله على كثير من الرسل حيث اختصه بكلامه ﴿تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض منهم من كلّم الله ...﴾ (2) ، إلاّ أنّه مع ذلك قد مارس التقية في بعض أدوار حياته في تبليغه الرسالة للناس وقد فسر ما ورد في الآيات التي ذكرت خوفه بأنه لم يكن يخاف على نفسه من القتل والإيذاء، وإنما كان يخاف من غلبة الباطل على الحق، وكان يتوارى ويترقب لئلاّ يؤخذ ويقتل فيضيع الحق بقتله، وكان يجري في أموره على مقتضى السنن الطبيعية كما هو شأن سائر الأنبياء، فإنهم لا يلجأون إلى الوسائل الغيبية والإعجازية إلاّ في ظروف معينة مذكورة في محلها من علم الكلام.
ومما يدلّ على أن موسى (ع) قد مارس التقية ما ورد في صحيحة أبي حمزة الثمالي (وقد تقدم شطر منها) وجاء فيها: إن الله عزوجل قال لموسى وهارون: ﴿إذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا لـه قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى﴾ يقول الله عزوجل: كنيّاه وقولا لـه: يا أبا مصعب(3) الحديث.
فالموقف اقتضى الملاينة في القول، لا إعلان الحرب عليه مع أن فرعون كان في أوج طغيانه.
والمستفاد من الآية الكريمة أن التقية مع فرعون مداراتية لا خوفية ويراد بها ترقيق القلب وتليينه، هذا بالنسبة إلى موسى (ع) .
وأما بالنسبة إلى أصحاب موسى (ع) فقد أشار القرآن الكريم إلى أن زمان فرعون كان زمان رهبة وبطش وقهر، ولم يكن الناس آمنين فيه على أرواحهم وأعراضهم ﴿إن فرعون علا في الأرض وجعل
أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين﴾ (1) وتمادى فرعون في غيّه وضلاله: ﴿فحشر فنادى * فقال أنا ربّكم الأعلى﴾ (2) ﴿وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين﴾ (3) ، وكان الخوف مهيمناً على الناس، وفي قصة ولادة موسى (ع) ـ كما تحدث عنها القرآن الكريم ـ ما يكشف عن معاناتهم إلى حد لم يتمكن أحد من البوح بما في نفسه فضلاً عن إظهار المخالفة، فلما ظهر موسى بدعوته آمن به من آمن وكان إيمانهم في طي الكتمان، وقد حفظ لنا التاريخ أسماء بعض المؤمنين واشار القرآن إلى بعضهم فمنهم:
كما تحدث عنه القرآن: ﴿وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه﴾ (4) وذكر ابن كثير في قصصه: (أن هذا الرجل هو ابن عمر فرعون وكان يكتم إيمانه من قومه خوفاً منهم على نفسه، وزعم بعض الناس أنّه كان إسرائيلياً وهو بعيد ومخالف لسياق الكلام لفظاً ومعنى)(5) ، واختلف في اسمه فقيل: شمعان، قال الدارقطني: لا يعرف من اسمه شمعان بالشين المعجمة إلاّ مؤمن آل فرعون، حكاه السهيلي، وفي تاريخ الطبراني: أن اسمه خير(6) .
والغرض أن هذا الرجل كان يكتم إيمانه، فلما همّ فرعون بقتل موسى (ع) وعزم على ذلك وشاور ملأه فيه، خاف هذا المؤمن على موسى فتلطّف في ردّ فرعون بكلام جمع فيه بالترغيب والترهيب، فقال على وجه المشورة والرأي: ﴿أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ...﴾ (7) وقال فرعون في جوابه: ﴿ما أريكم إلاّ ما أرى ...﴾ (8) .
وذكر الثعلبي أنّه كان حزقيل وهو من أصحاب فرعون وكان نجاراً، وهو الذي صنع لأم موسى
التابوت حين ولدته وألقته في البحر، وقيل: إنه كان خازناً لفرعون قد خزن لـه مائة سنة، وكان مؤمناً مخلصاً يكتم إيمانه، إلى أن ظهر موسى على السحرة فأظهر حزقيل أمره(1) . وجاء في روايات أهل البيت (ع) تشبيه أبي طالب في إيمانه وكتمانه بمؤمن آل فرعون، فقد روى فخار بن معد الموسوي بإسناده عن ابن بابويه عن محمّد بن القاسم المفسر عن يوسف بن محمّد بن زياد عن العسكري (ع) في حديث قال: إن أبا طالب كمؤمن آل فرعون يكتم إيمانه(2) . وسيأتي تشبيهه بأصحاب الكهف كما سيأتي الحديث ـ مفصلاً ـ عن أبي طالب (ع) .
وجاء في تفسير الثعلبي بالإسناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن النبيّ (ص) قال: سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين أبداً، علي بن أبي طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون، فهم الصديقون، وعليّ أفضلهم(3) .
وقد روى السيوطي في الدرّ المنثور روايات قريبة من هذا المضمون(4) .
وكانت مؤمنة من إماء الله الصالحات، إلاّ أنها كانت مع بنات فرعون تخدمهن، ولها في إيمانها قصة معروفة ذكرها الثعلبي في قصص الأنبياء(5) .
وهي امرأة فرعون ﴿وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربّ ابن لي بيتاً في الجنة ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين﴾(6) ، وقد جاء في روايات أهل البيت (ع) أنها من زوجات النبيّ (ص) في الجنة(7) .
وقال الثعلبي: إن امرأة فرعون آسية، كانت من بني إسرائيل، وكانت مؤمنة مخلصة، وكانت تعبد الله
سراً حتى إنها كانت لتعلّل في قضاء حاجتها فتبرز فتصلي يومها في مبرزها خوفاً من فرعون، وكانت على تلك الحالة إلى أن قتل فرعون امرأة حزقيل ...(1) .
فقد ذكر المؤرخون أنّ الملك لاجب وامرأته اربيل، وكان يستخلفها على رعيته إذا غاب عنهم، وهي تبرز للناس كما يبرز زوجها، وتركب كما يركب، وتجلس كما يجلس في مجلس القضاء، وتقضي بين الناس، وكانت قتّالة للأنبياء، وكان لها كانت مؤمن حكيم يكتم إيمانه وكان قد خلّص من بين يديها ثلاثمائة نبي كانت تريد قتلهم(2) .
الذي صحبه موسى (ع) كما تحدث القرآن عنه ﴿وعلمناه من لدنا علماً﴾ (3) واختلف في أنّه لا زال حياً وعلى ذلك كثير من الروايات، وذهب آخرون إلى أنّه توفي، وقد كان لـه من التقية نصيب، فقد جاء في قصص الأنبياء: أنّه كان ابن الملك فسلمه إلى المؤدب يؤدبه، وكان يختلف إليه، وكان بين منزله ومؤدبه رجل عابد كان يمرّ به فأعجبه حاله فألفه، وكان يجلس عنده والمعلم يظنّ أنّه في المنزل وأبوه يظن أنّه عند المعلم حتى شبّ ونشأ فزوجه ... فقال لها: أنا مخبرك بأمر إن أنت سمعته صرف الله عنك شرّ الدنيا وعذاب الآخرة ... قال: إني رجل مسلم لست على دين أبي وليست النساء من حاجتي ...(4) .
وقال ابن كثير: وقد روى الحافظ ابن عساكر بإسناده إلى السدي: أن الخضر وإلياس كانا أخوين، كان أبوهما ملكاً، فقال إلياس لأبيه: إن أخي الخضر لا رغبة لـه في الملك فلو أنك زوجته لعله يجيء منه ولد يكون الملك لـه، فزوجه أبوه بامرأة حسناء بكر، فقال لها الخضر: إنه لا حاجة لي في النساء، فإن شئت أطلقت سراحك وإن شئت أقمت معي تعبدين الله عزوجل وتكتمين عليّ سرّي فقالت: نعم وأقامت معه سنة ...(5) .
هذا ولا يبعد أن يكون هناك آخرون آمنوا بالله وبموسى وكتموا إيمانهم وعاشوا بالتقية آنذاك ولم تصل إلينا أنباؤهم.
تحدّث القرآن الكريم عن أصحاب الكهف فقال: ﴿إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى﴾ (1) وأشار إلى ما لاقاه هؤلاء في حياتهم، وأن الله تعالى أرجعهم إلى الحياة بعد أن أماتهم مدة من الزمن بلغت أكثر من ثلاثمائة سنة. ويستفاد من قوله تعالى: ﴿وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربّنا ربّ السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططا﴾ (2) ، أنهم آمنوا بالله أولاً وربط الله على قلوبهم، ثمّ قاموا في مجلس الملك أو فيما بينهم وأعلنوا إيمانهم، وقد كشفت روايات الخاصة والعامة عن بعض التفاصيل التي أشار إليها القرآن حول أصحاب الكهف، فمن الخاصة ما جاء في موثقة درست الواسطي قال: قال أبو عبد الله (ع) : ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف ان كانوا يشهدون الأعياد ويشدّون الزنانير، فأعطاهم الله أجرهم مرتين(3) .
وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن يحيى عن أبي عبد الله (ع) أنّه ذكر أصحاب الكهف، فقال: لو كلّفكم قومكم ما كلّفهم قومهم، فقيل: وما كلّفهم قومهم؟ فقال: كلّفوهم الشرك بالله العظيم، فأظهروا الشرك وأسروا الإيمان حتى جاءهم الفرج ...(4) .
وفي إرشاد القلوب في حديث الجاثليق والأساقفة مع أبي بكر ثمّ مع أمير المؤمنين (ع) ... فإن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، وكونوا في أهل ملتكم كأصحاب الكهف، وإيّاكم أن تفشوا أمركم إلى أهل أو ولد أو حميم أو قريب، فإن دين الله عزوجل الذي أوجب لـه التقية لأوليائه الحديث(5) .
وروى الكاهلي عن أبي عبد الله (ع) أن أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا الكفر، وكانوا على إجهار الكفر أعظم أجراً منهم على إسرار الإيمان(6) .
وفي صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) قال: إن مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف، أسرّوا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم أجرهم مرتين(7) .
وروى فخار بن معد الموسوي في كتابه (الحجة على الذاهب) بسنده عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي
عبد الله (ع) في حديث إن جبرئيل نزل على رسول الله (ص) فقال: يا محمّد إن ربك يقرؤك السلام، ويقول لك: إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرتين، وإن أبا طالب أسرّ الإيمان وأظهر الشرك فآتاه الله أجره مرتين، وما خرج من الدنيا حتى أتته البشارة من الله بالجنة(1) .
ونقل الطبرسي في مجمع البيان اختلاف الأقوال في أحوالهم فقال: وقالوا: هؤلاء الفتية قوم آمنوا بالله تعالى وكانوا يخفون الإسلام خوفاً من ملكهم، وكان اسم الملك دقيانوس واسم مدينتهم افسوس، وكان ملكهم يعبد الأصنام ويدعو إليها ويقتل من خالفه، وقيل: إنه كان مجوسياً يدعو إلى دين المجوس والفتية كانوا على دين المسيح لما برح أهل الإنجيل، وقيل: كانوا من خواص الملك، وكان يسرّ كل واحد منهم إيمانه عن صاحبه، ثمّ اتفق أنهم اجتمعوا وأظهروا أمرهم فأووا إلى الكهف، عن عبيد بن عمير، وقيل: إنهم كانوا قبل بعث عيسى (ع) (2) .
وأما ما ورد عن طريق العامة فقد روى الثعلبي: ... فخرجوا في عيد عظيم في زي وموكب، وأخرجوا معهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، فقذف الله في قلوبهم الإيمان، وكان أحدهم وزير الملك، فآمنوا وأخفى كل واحد منهم الإيمان عن صاحبه ...(3) .
وفي الدر المنثور: أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية غزوة الضيق نحو الروم، فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف الذي ذكر الله في القرآن ... فقال: (ابن عباس): إنهم كانوا في مملكة ملك من الجبابرة فجعلوا يعبدون حتى عبدوا الأوثان، وهؤلاء الفتية في المدينة فلما رأوا ذلك خرجوا من تلك المدينة فجمعهم الله على غير ميعاد، فجعل بعضهم يقول لبعض: أين تريدون؟ أين تذهبون؟ فجعل بعضهم يخفي على بعض لأنه لا يدري هذا على ما خرج هذا، ولا يدري هذا، فأخذوا العهد والمواثيق أن يخبر بعضهم بعضاً، فإن اجتمعوا على شيء وإلاّ كتم بعضهم بعضاً، فاجتمعوا على كلمة واحدة، فقالوا: ربنا رب السموات والأرض ...(4) .
ونقل السيوطي في تفسيره ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص) : أصحاب الكهف أعوان المهدي (عج)(5) .
لم نقف على شيء من الآثار ينص على أن النبيّ عيسى (ع) قد مارس التقية إلاّ أنّه ورد أن بعض حواريه قد مارسها، ومنهم صاحب يس، وتختلف الروايات في التعريف بهذه الشخصية ففي بعض الروايات أنّه حبيب النجار أحد سباق الأمم، فقد روى الثعلبي بإسناده عن ابن أبي ليلى عن أبيه قال: قال رسول الله (ص): سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين، حزقيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجار مؤمن آل يس، وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو أفضلهم(1) ، وفي بعضها أنّه شمعون الصفا رأس الحواريين(2) ، وقيل هو سمعان(3) ، وقيل: شلوم(4) ، وأكثر المفسرين على أنّه شمعون الصفا(5) .
وقد أشار القرآن الكريم إلى قصة اشتملت على التظاهر بعبادة الأصنام فقال تعالى: ﴿واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون * إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون﴾ (6) .
نقل الطبرسي في تفسيره ... فلما كذب الرسولان وضربا، بعث عيسى شمعون الصفا رأس الحواريين على أثرهما لينصرهما، فدةخل شمعون البلد متنكراً، فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به، فرفعوا خبره إلى الملك، فدعاه ورضي عشرته وأنس به وأكرمه، ثمّ قال لـه ذات يوم: أيها الملك أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك، فهل سمعت قولهما؟ ...(7) .
قال: وقد روى مثل ذلك العياشي بإسناده عن الثمالي وغيره عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) (8) . وأورد القمي في تفسيره القصة كاملة بسنده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (ع) وجاء فيها: فبعث الله الثالث، فدخل المدينة فقال: ارشدوني إلى باب الملك، فلما وقف على باب الملك قال: أنا رجل كنت أتعبد في فلاة من الأرض وقد أحببت أن أعبد إله الملك، فأبلغوا كلامه الملك فقال: أدخلوه إلى بيت
الآلهة، فأدخلوه فمكث سنة مع صاحبيه، فقال: بهذا ينقل قوم من دين إلى دين بالحذق (بالحرف)، أفلا رفقتما؟ ثمّ قال لهما: لا تقرّا بمعرفتي، ثمّ أدخل على الملك فقال لـه: بلغني أنك تعبد إلهي فلم أزل وأنت أخي فاسألني حاجتك ... وفيها أن الله تعالى أحي ابن الملك بدعائهما، وأن الملك آمن بالله وآمن أهل مملكته(1) .
وقال الثعلبي في قوله تعالى: ﴿فكذبوهما فعززنا بثالث﴾ : أي فقوينا برسول ثالث، وهو شمعون الصفا رأس الحواريين، إلى أن قال: وكان شمعون إذا دخل الملك على الصنم يدخل لدخوله ويصلّي كثيراً ويتضرّع حتى ظنوا أنّه على ملّتهم(2) .
هذا بعض ما وقفنا عليه مما ورد في التقية قبل الإسلام كما جاء في القرآن الكريم وكتب التفسير والتاريخ وروايات الشيعة والسنة، وليس الغرض من حشد هذا الكم من النصوص والشواهد التاريخية إلاّ التنبيه على أن التقية أمر ثابت في الشرائع السماوية السابقة، كما هو ثابت في شريعة الإسلام، وأنها أمر فطري وعلاج مؤقت يلجأ إليه الإنسان عند الحاجة دفاعاً عن نفسه وحفاظاً على معتقده واتقاء لشر الظالمين كما أنها قد تكون إحدى وسائل البلاغ، بل التقية هي إحدى السمات البارزة في حياة الصفوة من البشر وهم الأنبياء، كما لاحظنا من خلال ما ذكرناه من سيرة شيث وإبراهيم ويوسف وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والأولياء.
ويؤيد ما ذكرنا ما ورد في تفسير العسكري (ع) قال الحسن بن علي (ع) : قال رسول الله (ص): إن الأنبياء إنما فضلهم على خلقه أجمعين بشدة مداراتهم لأعداء دين الله، وحسن تقيّتهم لأجل إخوانهم في الله(3) .
وسيوافيك ـ أيها القارىء العزيز ـ من أمر التقية ما يكتمل به عقدها ويتسق به نظامها فانتظر وكن معي ولن يطول الانتظار.
والبحث فيها يتسع للكثير من القول إلاّ أنّه لما كانت التقية من الأمور الفطرية ـ كما ذكرنا ـ وهي لا تخضع لزمان معيّن إلاّ زمان الداعي إليها، فإنها تابعة للظرف الذي يقتضيها، وحيث إنّنا في صدد البحث التاريخي للتقية فإعطاء الملامح والشواهد التاريخية لهذا الأمر يقتضي مراعاة المراحل الزمنية المختلفة وعلاقتها بالتقية، ومن خلال ذلك نستطيع تصنيف البحث حول التقية بعد الإسلام إلى
مرحلتين زمنيتين مختلفتين الأولى: التقية في زمان النبيّ (ص)، والثانية: التقية بعد زمانه (ص).
ذكر في تاريخ تلك الحقبة أن الإسلام بدأ غريباً، ولم تكن نفوس الناس آنذاك ـ إلاّ القليل ـ مهيأة للاستضاءة بنور تعاليم الدين الجديد، فقد كانوا فريسة الأوهام والخرافات والضلالات، وقد أشار القرآن الكريم إلى المعاناة التي قاساها النبيّ (ص) لينقذ الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور: ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين﴾ (1) ، ﴿وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكن الله الّف بينهم﴾ (2) ، ﴿ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك﴾ (3) ، ثمّ إن من خصائص تعاليم النبيّ (ص) أنها جاءت لترفع من كرامة الإنسان، وتضع عنه الأغلال التي كبل بها عقله ونفسه، وتجعل جميع بني البشر على قدم المساواة، وإن كان ثمة من تفاوت فإنما هو بما يكتسبه الإنسان من الفضائل والكمالات: ﴿إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ (4) وكان ذلك نذيراً للإطاحة بسلطان الجبابرة والظالمين الذين كانوا يعيشون على دماء المستضعفين من الفقراء والعبيد وغيرهم ممن لا حول لهم ولا قوة، فما كان من هؤلاء الذين لا يملكون إلاّ السيادة الوهمية التي قامت على أشلاء الضعفاء والمساكين إلاّ مقاومة هذه الرسالة الجديدة التي جاءت تهدد مصالحهم، لذلك بدأ الإسلام غريباً. ولما كانت هذه الرسالة هي الخاتمة فلابد من معالجة مختلف القضايا بحكمة ورويّة لكسب الموقف لصالح الإسلام في أيامه الأولى، فكانت المواقف البطولية الشجاعة التي وقفها من آمن بالنبيّ (ص) وبدعوته، وفي طليعة هؤلاء شيخ الأباطح أبو طالب (ع) .
إن مما مني به تاريخ المسلمين أن تحكّمت فيه الأهواء والرؤى الضيقة، وسيطرت شهوات النفس وحب الدنيا على بعض كتابه طمعاً في حفنة من دراهم، أو تزلّفاً لظالم، أو إرضاء لحقد وعداء، وكان من جرّاء ذلك أن أصبح بعض تاريخ المسلمين المكتوب موضع ريب أو توقف.
إن عنصر الأمانة المفتقد في كتابة التاريخ ـ وهو عنصر أساس ـ أدّى إلى تلبيس وتدليس في صياغة الأحداث، فأشاد بمن لا يستحق الذكر، وأغفل ـ عن عمد ـ ذكر من يستحق التخليد والإكبار. وكان أحد ضحايا هؤلاء المؤرخين أبا طالب فقد نسب إليه زوراً وبهتاناً أنّه مات وهو من المشركين، وكان في هذه الفرية تطاولٌ على كرامة النبيّ (ص) ومساس بمقام النبوة الأقدس من حيث لا يشعرون.
إن أبا طالب في شخصيته وعظمته ومواقفه البطولية صفحة بيضاء في تاريخ الإسلام، وإن لـه الشرف العظيم في حماية الإسلام بحماية النبيّ (ص) من كيد قريش الذين خانهم سوء الحظ والفهم والتقدير فاجتمعت كلمتهم على قتل النبيّ (ص) والقضاء على دعوته.
وما كان ذلك (شرف حماية الإسلام بحماية النبيّ (ص)) ليكون لولا إيمانه العميق بالله تعالى ويقينه الصادق بدعوة النبيّ (ص) كيف لا وهو القائل يخاطب النبيّ الأعظم (ص):
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسّد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقرّ منك عيونا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي ولقد دعوت وكنت ثمّ أمينا
ولقد علمت بأنّ دين محمد من خير أديان البريّة دينا
لم يكن أبو طالب أغنى بني هاشم وأكثرهم مالاً ليكون النبيّ (ص) في حمايته، وما كان لتحركه العصبية القبلية لحماية ابن أخيه، بيد أنّه كان المؤمن الصادق بما جاء به النبيّ (ص) ولذاك تفانى في حب النبيّ ورعايته وخدمته وكان يوصي أبناءه بذلك.
إنّ المتيقّن من سيرة الرسول (ص) وأهل بيته (ع) أنهم ما كانوا ليحابون أحداً على حساب الدين، وشاهده أنهم يبرؤن من كل مشرك لم يؤمن بالله وبالرسول ولو كان من أقرب الناس إليهم وهذا أبو لهب ـ وهو عم النبيّ (ص) ـ ينزل فيه قرآن يُتلى: ﴿تبت يدا أبي لهب وتب﴾ (1) إخباراً من الله تعالى بأنه لن يؤمن وأن مصيره بئس المصير ﴿سيصلى ناراً ذات لهب﴾ (2) . وأمّا أبو طالب فقد شهد النبيّ (ص) والأئمة (ع) ـ كما سيأتي ـ بإيمانه وأن الله أتاه أجره مرتين حيث بذل وجوده في خدمة نبي الإسلام بل والدعوة إلى الإسلام(3) :
ولم يكن ليتسنى لأبي طالب حماية النبيّ (ص) وهو في مجتمع الوحوش إلاّ أن يسلك طريقاً يضمن من خلاله أن يوفر الحماية الكاملة للنبي (ص) من أناس يتربصون به الدوائر لزعمهم أنّه جاء يسفه أحلامهم ويسخر بآلهتهم، فكان السبيل الأقوم والطريقة المثلى لأبي طالب أن يتقي من قومه.
وأما رميه بالكفر وأنه مات على الشرك فهي «شنشنة أعرفها من أخزم» ولنضرب عنها صفحاً ونكتفي بالإشارة إلى أن أبا طالب (ع) لو لم يكن أباً لعلي (ع) لكان سيداً من سادات المسلمين ومن السابقين الأولين بلا منازع.وأما الأدلة على إيمان أبي طالب فنحن وإن كنا في غنى عن ذكرها ويكفينا الوقوف على سيرته وأقواله وأفعاله إلاّ أننا نذكر بعضها رغبة في إظهار الحق وتفنيداً لمزاعم المغرضين، وأداءاً لبعض حقوق أبي طالب (ع) علينا فنقول:
استدلّ على إيمان أبي طالب أمور:
أولها: الإجماع على إيمانه، وقد ادعاه الشيخ المفيد والشيخ الطوسي والطبرسي والسيد فخار بن معد الموسوي والفتال النيسابوري والسيد ابن طاووس والعلامة المجلسي وغيرهم(1) ، ونقل ابن أبي الحديد إجماع الشيعة وأكثر الزيدية وجملة من أعاظم المعتزلة على ذلك(2) .
وثانيها: الروايات وقد تقدم بعضها وأنه شبيه مؤمن آل فرعون وأصحاب الكهف وأنّ الله أتاه أجره مرتين.
وممّا ورد أيضاً ما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سألت رسول الله (ص) عن ميلاد أمير المؤمنين (ع) ؟ فشرح (ص) ولادته، إلى أن قال: ثمّ انصرف أبو طالب إلى مكة، قال جابر: يا رسول الله، الله أكبر !! إن الناس يقولون إن أبا طالب مات كافراً !!! قال: يا جابر الله أعلم بالغيب، لما كانت الليلة التي أسري بي فيها إلى السماء انتهيت إلى العرش، فرأيت أربعة أنوار فقلت: إلهي ما هذه الأنوار؟
فقال: يا محمّد هذا عبد المطلب، وهذا أبو طالب، وهذا أبوك عبد الله، وهذا أخوه طالب، فقلت: إلهي وسيدي فبم نالوا هذه الدرجة؟ قال: بكتمانهم الإيمان وإظهارهم الكفر وصبرهم على ذلك حتى ماتوا(1) .
وروى الكراجكي في كنز الفوائد بسنده عن مفضّل بن عمر عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه عن أمير المؤمنين علي (ع) : أنّه كان جالساً في الرحبة، والناس حوله، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنك بالمكان الذي أنزلك الله، وأبوك معذب بالنار !! فقال لـه: مه، فض الله فاك، والذي بعث محمداً بالحق نبياً لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفّعه الله، أأبي معذب في النار وابنه قسيم الجنة والنار؟ والذي بعث محمداً بالحق إن نور أبي طالب يوم القيامة ليطفي أنوار الخلائق إلاّ خمسة أنوار، نور محمّد ونور فاطمة ونور الحسن والحسين ونور ولده من الأئمة إلاّ أن نوره من نورنا، خلقه الله من قبل خلق آدم بألفي عام(2) .
وروى السيد فخار بن معد الموسوي بسنده عن أبي بصير ليث المرادي قال: قلت لأبي جعفر: سيدي إن الناس يقولون: إن أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، فقال (ع) : كذبوا والله، إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفة ميزان وإيمان هذا الخلق في كفة ميزان لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم، ثمّ قال: كان والله أمير المؤمنين يأمر أن يحج عن أب النبيّ وأمه، وعن أبي طالب، أيام حياته، ولقد أوصى في وصيته بالحج عنهم بعد مماته(3) .
وروى الكراجكي بإسناده عن يونس بن نباته عن أبي عبد الله (ع) قال: يا يونس ما يقول الناس في أبي طالب؟ قلت: جعلت فداك يقولون: هو في ضحضاح من نار يغلي منها رأسه، فقال: كذب أعداء الله، إن أبا طالب من رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً(4) .
وروى أيضاً بإسناده عن أبان بن محمّد قال: كتبت إلى الإمام الرضا علي بن موسى (ع) : جعلت فداك قد شككت في إيمان أبي طالب، قال: فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فمن يبتغ غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى، إنك إن لم تقرّ بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار(5) .
وأما الروايات الواردة من طرق العامة فقد استقصاها العلامة الأميني في الجزء السابع من كتابه الغدير فراجع.
ثالثها: إن من الثابت في شريعة الإسلام ـ كما هو مقرّر في محلّه من كتب الفقه ـ عدم جواز نكاح الكافر من المرأة المسلمة، ولذا فرّق الإسلام بين زينب وبين أبي العاص بن ربيعة حين أسلمت إلى أن أسلم أبو العاص فردها النبيّ (ص) إليه بنكاح جديد أو بالنكاح الأول(1) ، ولاشك أن فاطمة بنت أسد من السابقات وهي أول امرأة هاجرت إلى رسول الله (ص) من مكة إلى المدينة على قدميها، وكانت من أبرّ الناس برسول الله (ص)(2) ، ولما ماتت جاء أمير المؤمنين (ع) إلى النبيّ (ص) وهو يبكي، فقال رسول الله (ص) : ما يبكيك؟ فقال: ماتت أمي فاطمة، فقال رسول الله (ص) : أمي والله، وقام (ص) مسرعاً حتى دخل فنظر إليها وبكى، وفعل النبيّ أشياء معها لم يفعلها مع أحد من قبل، وسأله المسلمون عن ذلك فقال: اليوم فقدت برّ أبي طالب، إن كانت لتكون عندها الشيء فتؤثرني به على نفسها وولدها ...(3) .
فإذا كانت فاطمة بنت أسد بهذه المثابة من الإيمان، وبهذا المقام عند النبيّ (ص) فكيف يبقيها في عصمة أبي طالب لو كان كافراً ؟! وهل يتصور في حق النبيّ (ص) أن يعطل حكماً من أحكام الإسلام !؟
وبهذا استدل الإمام زين العابدين (ع) فقد جاء في رواية أبي علي الموضح قال: تواترت الأخبار بهذه الرواية وغيرها عن علي بن الحسين أنّه سئل عن أبي طالب أكان مؤمناً؟ فقال: نعم، فقيل لـه: إن هاهنا قوماً يزعمون أنّه كافر! فقال (ع) : واعجباه يطعنون على أبي طالب، أو على رسول الله (ص) !! وقد نهاه الله أن يقرّ مؤمنة مع كافر في غير آية من القرآن، ولايشك أحد أن بنت أسد من المؤمنات السابقات، وإنها لم تزل تحت أبي طالب حتى مات أبو طالب رضي الله عنه(4) .
هذا ومما يؤيد أن إيمان أبي طالب (ع) حقيقة ثابتة لا يتطرق إليها ريب أمران:
الأول: شهادة أبي بكر نفسه بإسلام أبي طالب (ع) ، فقد ذكر المؤرخون أن أبا بكر جاء بأبي قحافة إلى النبيّ (ص) عام الفتح يقوده، وهو شيخ كبير أعمى، فقال رسول الله: ألا تركت الشيخ حتى نأتيه ! فقال: أردت يا رسول الله أن يأجره الله ! أما والذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحاً بإسلام عمك
أبي طالب مني بإسلام أبي ...(1) .
الثاني: ما استنتجه الكاتب المصري عبد الفتاح عبد المقصود من خلال عرضه لصورة من صور بغي معاوية بن أبي سفيان على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، حيث قال: إن سياسة ابن هند كما هو معلوم، وكما هي سياسة مثله من البغاة الطغاة، كانت تقوم على تزييف الحقائق، وابتداع الادعاءات، ثمّ ترديد ما زيف وابتدع ترديداً يضمن لزوره أن يظل دائماً ـ كوسوسة الشيطان الخنّاس ـ يملأ الأسماع، ويحشو الأرواع، ويتلوى بالأذهان فينال من قدر علي ويمسخ صورته في مدارك الناس فبذلك وحده يلون بالحق باطله، ويبدو ـ وإنه لظالم ! ـ كأنه مظلوم ! ... ولقد ركب الرجل إلى غرضه هذا كل مطاياه !
وها هي صفحات تاريخه تسربت في تحديثنا بادعاءاته على الإمام، وبفراه الغالية في البهتان، وبقدحه في بنيه وذويه، وبخوضه بالباطل في سير صحابته الأبرار، فأي نصيب كان نصيب «أبي طالب» من هذه الأراجيف(2) .
ومن جانب آخر كان أبو الحسن (ع) في منتهى الصراحة في كشف واقع ابن أبي سفيان وأسلافه ومصيرهم المنتظر، وأنهم أحقر من أن يُقرنوا ببني هاشم، وقد استعرض الكاتب مقاطع من المكاتبات التي دارت بين الإمام (ع) وبين معاوية وكان من بينها قول الإمام (ع) في جوابه على كتاب لمعاوية: وأما قولك: إنا بنو عبد مناف، فكذلك نحن، ولكن ليس أميّة كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق، ولا الصّريح كاللصيق، ولا المحقّ كالمبطل، ولا المؤمن كالمدغل، ولبئس الخلف خلف يتبع سلفاً هوى في نار جهنم(3) .
«ولم نسمع معاوية يرد هذا الاتهام، ولا رأيناه يحاول الكيل لعلي صاعاً بصاع، فيخوض في إيمان أبي طالب زاعماً أنّه مات على غير الإسلام لو وسعه لفعل فأفحش في القول، وأوفى الكيل ... فأمّا وقد كف ادعاءه، وابتلع خيلاءه، فذلك لأنه لم يكن يملك في إيمان أبي طالب اثارة شبهة أو دليل ينفد من خلالها إلى نقض هذا الإيمان، سواء أكانت هذه الاثارة رأي شانىء معاصر عايش شيخ بني عبد مناف، أم رواية لاحق آثر الانحراف.
ولمن يشاء أن يحاج في هذا الرأي نراه، فليأتنا من رسائل ابن أبي سفيان إلى الإمام، أو في أحاديثه التي ملأ بها آذان مناصريه، بكلمة تشير من قريب أو من بعيد، إلى ما يخدش إيمان أبي طالب وينال من صدق إسلامه» (4) .
ذكرنا فيما تقدم إجماع الشيعة على إيمان أبي طالب (ع) ونكتفي هنا بذكر أقوال بعض علماء السنة تأييداً لهذه الحقيقة فمن ذلك:
1 ـ قال ابن الأثير في جامع الأصول: وما أسلم من أعمام النبيّ غير حمزة والعباس وأبي طالب عند أهل البيت (ع) (1) .
2 ـ وقال البرزنجي بعد استشهاده بأبيات أبي طالب واثبات إيمانه:
وهذا نطق بالوحي قبل صدوره من النبيّ (ص) فإنه أخبر بذلك بعد مدة من قول أبي طالب، والحديث وحي كالقرآن، فثبت بهذه الأخبار والأشعار أن أبا طالب كان مصدقاً بنبوة النبيّ (ص) وذلك كاف في نجاته(2) .
وقال: فمن وقف على ما ذكره العلماء في ترجمته علم يقيناً أنّه كان على التوحيد، وهكذا بقية آبائه إلى أدم، وبهذا يعلم أن قول أبي طالب هو على ملة عبد المطلب إشارة إلى أنّه على التوحيد ومكارم الأخلاق، ولو لم يصدر من أبي طالب من الأشارات الدالة على توحيده إلاّ قوله: وهو على ملة عبد المطلب كان ذلك كافياً(3) .
3 ـ وقال التلمساني في حاشيته على الشفاء عند ذكر أبي طالب: لا ينبغي أن يذكر إلاّ بحماية النبيّ (ص) لأنه حماه ونصره بقوله وفعله، وفي ذكره بمكروه أذية للنبي (ص)، ومؤذي النبيّ (ص) كافر، والكافر يقتل(4) .
4 ـ وقال أبو طاهر: من أبغض أبا طالب فهو كافر(5) .
هذا ومن شاء الوقوف على المزيد من الأقوال فليرجع إلى الجزء السابع من الغدير وإلى كتاب منية الراغب في إيمان أبي طالب وكتاب الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب.
ثم إن هناك جوانب أخرى في حياة أبي طالب (ع) جديرة بالإكبار إلاّ أن لها مقاماً آخر.
وخلاصة القول إن إيمان أبي طالب حقيقة ثابتة لا يرتاب فيها إلاّ مريض القلب والإيمان.
وهو أحد السابقين الأولين، ومن الذين واكبوا مسيرة الإسلام منذ أيامها الأولى مع النبيّ (ص) ، وختم حياته شهيداً في معركة الحق والباطل يوم صفين.
وبلغ من المقام أن قال فيه النبيّ (ص) : «عمار جلدة ما بين العين والأنف» (1) بل جعله مقياساً للحق، فقال (ص): «تقتله الفئة الباغية» (2) الأمر الذي جعل بعضهم ينتظر شهادة عمار ليحدد موقفه يوم صفين(3) ، وقد علّل بعض الكتّاب انصراف الزبير يوم الجمل عن محاربة علي (ع) بأنه رأى عماراً في صفوف جيش الإمام (ع) فترك المعركة خوفاً من قتله(4) .
وليس غريباً أن يكون عماراً كذلك، بل الغريب أن لا يكون، فهو الذي مُلىء حباً للحق وأهله وبذل حياته في سبيل الحق والدفاع عنه والموت دونه، وقد لاقى من الشدائد والمحن ما اضطره إلى إعلان كلمة الكفر.
قال الزمخشري في كشافه بعد قوله تعالى: ﴿إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان﴾ : روي أن أناساً من أهل مكة فتنوا، فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، وكان فيهم من أكره وأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد بالإيمان، منهم عمار بن ياسر وأبواه ياسر وسميّة وصهيب وبلال وخباب وسالم عذبوا، ... فأمّا عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً(5) .
وقال المراغي في تفسيره: فمن نطق بكلمة الكفر وقاية لنفسه من الهلاك وقلبه مطمئن بالإيمان لا يكون كافراً، بل يعذر كما فعل عمار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً وقلبه مُلىء بالإيمان، وفيه نزلت آية: ﴿... من كفر بعد إيمانه إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ...﴾ ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم وبذل المال لهم لكفّ أذاهم وصيانة العرض منهم، ولا يعدّ هذا من الموالاة المنهي عنها، بل هو مشروع، فقد أخرج الطبراني قوله (ص): ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة(6) .
وقد ورد في روايات أهل البيت (ع) أن ما جاء به عمار بن ياسر هو عين الصواب، ففي موثقة مسعدة
ــــــــــــــــــــبن صدقة عن أبي عبد الله (ع) ... والله ما ذلك عليه، وما لـه إلاّ ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالإيمان، فقال لـه النبيّ (ص) عندها: يا عمار إن عادوا فعد، فقد أنزل الله عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا(1) .
وفي موثقة محمّد بن مروان قال: قال أبو عبد الله (ع) : ما منع ميثم رحمه الله من التقية، فوالله لقد علم أن هذه الآية نزلت في عمار وأصحابه ﴿إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان﴾(2) . وهناك روايات أخرى بهذا المضمون وسيأتي ذكر بعضها في مباحث الكتاب.
قلنا: إن التقية لا تخضع لزمن معين إلاّ أنها اقترنت بعد رحيل النبيّ (ص) باسم أئمة أهل البيت (ع) وشيعتهم إلى يوم الناس هذا، ولا تحصى شواهدها كثرة، حتى أن أغلب الأزمنة التي عاشها أئمة أهل البيت (ع) (3) وشيعتهم كانت على التقية.
والذي نؤكد عليه ـ بعد كل ما ذكرنا ـ أن التقية لم تكن وليدة فكرة مذهبية انبثقت عن الخلاف القائم بين مذاهب المسلمين كما يحلو للبعض أن ينعتها بذلك، وليست هي غطاءً يخفي وراءه تنظيماً سرّياً يهدف إلى هدم الدين وتقويض دعائمه كما يرجف بذلك آخرون أو يحاول الإرجاف، بل هي أمر فطري أكّده القرآن وأيّده البرهان.
وإذا كانت التقية قد اقترنت باسم الشيعة بعد وفاة النبيّ (ص) ، فليس لأن الشيعة هي الأساس فيها، وإنما هي إحدى الضحايا التي اضطرتها الظروف العصبية لممارسة التقية على مرّ الزمان، كنتيجة طبيعية لما لاقاه الشيعة في سبيل الحفاظ على منهجها عبر التاريخ، وهناك عوامل عديدة ساهمت بصورة مباشرة وغير مباشرة في اقتران التقية باسم الشيعة.
إنّ الشيعة الإماميّة ـ وهي الفئة المؤمنة ـ التي انتهجت طريقاً رسمه لها قادتها ـ الأئمة المعصومون (ع) ـ وكان طريقاً صعباً ـ أرادت الحفاظ على السير قدماً فيه لتقطعه إلى نهايته، فاستسهلت فيه كل عسير، واسترخصت من أجله كل ثمين، لأن غايته أشرف الغايات، ونهايته أسعد النهايات، وكان لزاماً عليها أن تدفع ضريبة ولائها لأهل البيت الطاهر، وتتحمل في سبيل ذلك كلّ مشقّة وعناء، ولم يكن ذلك
ــــــــــــــــــــنتيجة جبر أو إكراه، بل كان بمحض القناعة والرضا والإرادة، اقتداء بمسيرة أئمة الهدى (ع) في سيرتهم واستجابة لنداء القرآن والرسول (ص).
إن تاريخ الشيعة كما هو حافل بالعطاء في مجالات الفكر والعلم والعمل كذلك هو حافل بالمآسي والآلام، فقد صبّ أعداؤهم عليهم العذاب صبّاً، ولم يألوا جهداً في التنكيل بهم، قتلاً وسجناً وتشريداً، حتى اصطبغت صفحات التاريخ بدمائهم الزاكية، وضاقت بهم غياهب المعتقلات، وشتتوا لا يلجأون إلى مأوى، في محاولات مسعورة من أعدائهم لمحو كل أثر لهم في الوجود، لا لشيء إلاّ لأنّهم قالوا ربنا الله ثمّ استقاموا.
وإنّ الشرارة التي أذكت نارالتقية، وأصبحت بعد ذلك مقترنة بالشيعة بدأت برحيل النبيّ (ص) ولقائه بالرفيق الأعلى، حينما أقصي أمير المؤمنين (ع) عن منصب قيادة الأمة بالحق ومع الحق وإلى الحق فالتزم الصمت عن المطالبة بحقه إبقاءاً على الدين، وحفاظاً على مبادىء السماء، وإلاّ فقد كان بمقدوره أن يشعلها حرباً لا هوادة فيها ـ وهو الفارس المهاب ـ لتكون بعد ذلك فتنة لا ينجو منها أحد، بيد أنّه ـ وعند تزاحم المقتضيات ـ آثر السكوت وإن جُهل قدره ومقامه أو سُلب حقه المشروع. ولم يكن أمير المؤمنين (ع) قد خسر في ذلك شيئاً، فما كانت الخلافة لتضيف إلى مقامه شأناً، أو ترفع من قدره مقداراً، فهو علي وكفى به تعريفاً. وإنما وقع الخسران على الناس، حيث حرموا أنفسهم وأضاعوا حظهم، ﴿وألّوا استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً﴾ (1) (ويعرف التّالون غبّ ما أسسه الأولون)(2) .
وتوالت الأحداث مؤلمة، على علي وأولاد علي، وشيعة علي، وكأنما لم يكن علي أخا الرسول (ص) ونفسه وقرين بضعته وباب مدينة علمه وحامل لوائه، وكأنما لم يكن أولاد علي (ع) ذريّة الرسول (ص) وعترته والقربى الذين أمر الله بمودتهم ومحبتهم(3) ، وكأنما لم يكن شيعة علي (ع) هم الذين صدّقوا الرسول فيما قال وابتعوه فيما أمر.
وتمخضت تلك الأحداث المؤلمة عن مصرع علي في محرابه، وقتل أولاده غيلة وصبراً، وتشريد شيعته في الآفاق.ويحدثنا التاريخ عن فجائع مروعة، لولا أنها وصلت إلينا عن طرق الثقات لكانت ضروباً من الخيال والأساطير (لقد بلغت الأمور حداً استقرّت فيه قناعة عامة لدى الأكثرية بأن الرافضة ويعنون بهم الشيعة هم من مذهب خارج عن الإسلام، وبالتالي فليس ثمة أيّة حرمة لنفوسهم وأعراضهم وأموالهم، وعلى أثر هذه القناعة المجحفة والاعتقاد الظالم هدرت دماء مئات الآلاف من الأبرياء حتى بات من الصعب أن تجد بقعة وإن كانت في أطراف العالم الإسلامي لم تلطخ بدماء الشيعة)(1) .
ويرسم لنا الإمام الباقر (ع) صورة عما لاقاه آل البيت (ع) وشيعتهم من الأذى والاضطهاد، قال ابن أبي الحديد: وقد روي أن أبا جعفر محمّد بن علي الباقر (ع) قال لبعض أصحابه: يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيانا وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من الناس ! إن رسول الله (ص) قبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش، حتى أخرجت الأمر من معدنه، واحتجت على الأنصار بحقنا وحجتنا، ثمّ تداولتها قريش واحد بعد واحد، حتى رجعت إلينا فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كئود حتى قتل، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثمّ غدر به، وأسلم، ووثب عليه أهل العراق، حتى طعن بخنجر في جنبه، ونهبت عسكره، وعولجت خلاخيل أمهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته، وهم قليل حق قليل، ثمّ بايع الحسين (ع) من أهل العراق عشرون ألفاً، ثمّ غدروا به، وخرجوا عليه، وبيعته في أعناقهم وقتلوه ثمّ لم نزل ـ أهل البيت ـ نُستَذَل ونُستظام، ونقصَى ونُمتهن، ونُحرم ونُقتل، ونخاف، ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في كل بلدة، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنّا ما لم نقله، وما لم نفعله، ليبغّضونا إلى الناس، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن (ع) فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن، أو نهب ماله، أو هدمت داره، ثمّ لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد، قاتل الحسين (ع) ، ثمّ جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظِنّة وتهمة، حتى إن الرجل ليقال له: زنديق أو كافر، أحبّ إليه من أن يقال له: شيعة علي، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ـ ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة، من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها، ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع(2) .
ولقد حوت صفحات التاريخ من الأحداث ما يندى له جبين الشرف والإنسانية خجلاً، وإن منها لما
تعفّ المروءة حياء من ذكره، وإن منها لما يفتت الأكباد.
وتكاد تتفق كلمة المتسلطين على رقاب الأمة على مناهضة الشيعة والسعي الحثيث لطمس معالمهم يتوارثه الأجيال جيل بعد جيل.
ومما ينبغي إلفات الأنظار إليه أن الشيعة الإمامية وإن كانت تُعدّ أقلّية ـ من حيث العدد ـ بالقياس إلى بعض من عداها، إلاّ أن ذلك لا يعني شيئاً في مقياس تقييم الحقائق والأشخاص، فليست الأقلّية عنصر ضعف في الحجة والبرهان، كما أن الأكثرية ليست دليلاً على الأحقية والصواب، بل قد يكون الأمر على العكس تماماً، وفي النصوص الدينية ما يؤكد هذا المعنى، فقد ورد في العديد من الآيات القرآنية مدح(1) الأقلّية والثناء عليهم، بينما جاء الذم(2) للأكثرية، مضافاً إلى أن ما تمخض عن الوقائع والأحداث يؤيد هذه الحقيقة، فإن الأكثرية هي التي حاربت النبيّ (ص) وهضمت علياً (ع) وظلمت الزهراء (ع) ، وإن الأكثرية هي التي اعتدت على الحسن (ع) وقتلت الحسين (ع) ، وإن الأكثرية هي التي شرّدت أهل البيت وأذاقتهم الويلات، وارجع إلى ما سطره التاريخ لتقف على هذه الحقيقة في كل زمان ومكان، وهي أن الأكثرية ما كانت ولن تكون المقياس في التقييم والترجيح.
أقول: إنّ هذا الاتفاق ـ من قبل الفئات التي أحكمت القبضة على زمام الأمور ـ على اتخاذ علي (ع) وأولاده وشيعته أعداء أدّى إلى اتّباع مختلف الوسائل والأساليب في القهر والبطش والاضطهاد، وعلى مر العصور ابتداء من قضية مالك بن نويرة(3) ، وما سبقها، وما أعقبها من أحداث وإلى يومنا هذا.
فممّا يحدثنا به التاريخ في العهد الأموي: أن معاوية بن أبي سفيان دعا بُسر بن أرطاة وكان قاسي القلب سفّاكاً للدماء، لا رأفة عنده، ولا رحمة، فوجهه إلى اليمن وأمره أن يأخذ طريق الحجاز والمدينة ومكة، حتى ينتهي إلى اليمن، وقال له: لا تنزل على بلد أهله على طاعة عليّ إلاّ بسطت عليهم لسانك، حتى يروا أنهم لا نجاة لهم منك، وأنك محيط بهم، ثمّ اكفف عنهم وادعهم إلى البيعة لي فمن أبى فاقتله، واقتل شيعة علي حيث كانوا.
وسار بسر بن أرطاة حتى دخل المدينة فخطب الناس وشتمهم وتهدّدهم ... ثمّ شتم الأنصار فقال: يا معشر اليهود وأبناء العبيد بني زريق، وبني النجار، وبني سالم، وبني عبد الأشهل، أما والله لأوقعنّ بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين وآل عثمان، أما والله لأدعنّكم أحاديث كالأمم السالفة ...
وفي طريقه إلى مكة قتل رجالاً، وأخذ أموالاً، حتى إذا دخل مكة أدخل في قلوب أهلها الرعب والخوف، وتركهم متوجهاً بجيشه نحو اليمن حيث شيعة أمير المؤمنين.
ويتفق المؤرخون على أن بُسر بن أرطاة عاث في اليمن فساداً وأهلك الحرث والنسل، فقد غار على همدان وسبى نساءهم، فكن أول مسلمات سبين في الإسلام، وقتل أحياء من بني سعيد، وروى أبو عمر الشيباني بإسناده عن أبي ذر: أنّه دعا وتعوّذ في صلاة صلاها، أطال قيامها وركوعها وسجودها، فسئل ممّ تعوّذت وفيم دعوت؟ قال: تعوذت بالله من يوم البلاء يدركني، ويوم العورة أن أدركه، فقيل له: وما ذاك؟ فقال: أما يوم البلاء فتلتقي فئتان من المسلمين فيقتل بعضهم بعضاً، وأما يوم العورة فإن نساءً من المسلمات يُسبين فيكشف عن سوقهن، فأيتهن كانت أعظم ساقاً اشتُريت على عظم ساقها، فدعوت الله أن لا يدركني هذا الزمان ... ثمّ أرسل معاوية بُسر بن أرطاة إلى اليمن فسبى نساء مسلمات فأقمن في السوق.
ووجد ابنين لعبيد الله بن العباس صبيّين، فأخذهما بُسر لعنه الله وذبحهما بيده بمدية كانت معه، فأصاب أم حكيم بنت قارظ ـ زوجة عبيد الله ـ ولهٌ على ابنيها، فكانت لا تعقل ولا تصغي إلاّ إلى قول من أعلمها أنهما قد قتلا، ولا تزال تطوف في المواسم تنشد الناس ابنيها بهذه الأبيات:
يامن أحسّ بابني اللذين هما
يامن أحسّ بابني اللذين هما
يامن أحسّ بابني اللذين هما
نبّئت بُسراًوما صدّقت مازعموا
أنحى على ودجَي ابنيّ مرهفة
حتى لقيت رجالاً من أُرومته
فالآن ألعن بُسراً حقّ لعنته
من دلّ والهة حرّى مولهة كالدرتين تشظّى عنهما الصّدف
سمعي وقلبي فقلبي اليوم مردهف مخّ العظام فمخي اليوم مختطف من قولهم ومن الإفك الذياقترفوا مشخوذة وكذاك الافك يقترف شُمّ الأنوف لهم في قومهم شرف هذا لعمر أبي بسر هو السرف على صبيين ضلاّ إذ غدا السّلفقالوا: ولما بلغ علي بن أبي طالب (ع) قتل بسر الصبيين جزع لذلك جزعاً شديداً ودعا على بسر لعنه الله ...(1) .
هذه صورة تنبئك عما تلاها من أحداث، فإذا كان هذا بعض ما فعله سيد الأمويين معاوية فما ظنك بمن جاء من بعده!؟
ومما يحدّث به التاريخ في العهد العباسي: أن المنصور لما بنى الأبنية ببغداد جعل يطلب العلوية طلباً
شديداً، ويجعل من ظفر به منهم في الاسطوانات المجوّفة المبنية من الجص والآجر، فظفر ذات يوم بغلام منهم حسن الوجه، عليه شعر أسود من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) فسلّمه إلى البنّاء الذي كان يبني له وأمره أن يجعله في جوف اسطوانة بمشهده، فجعله البناء في جوف اسطوانة فدخلته رقة عليه ورحمة له، فترك في الاسطوانة فرجة يدخل منها الروح، وقال للغلام: لا بأس عليك، فاصبر فإني سأخرجك من جوف هذه الاسطوانة إذا جنّ الليل، ولما جنّ الليل جاء البنّاء في ظلمته وأخرج ذلك العلوي من جوف تلك الاسطوانة، وقال له: إتّق الله في دمي ودم الفعلة الذين معي، وغيّب شخصك، فإني إنما أخرجتك في ظلمة هذه الليلة من جوف هذه الاسطوانة لأنّي خفت إن تركتك في جوفها أن يكون جدك رسول الله (ص) يوم القيامة خصمي بين يدي الله عزوجل، ثمّ أخذ شعره بآلات الجصّاصين كما أمكن، وقال له: غيّب شخصك وانجُ بنفسك، ولا ترجع إلى أمك، قال الغلام: فإن كان هذا هكذا فعرّف أمي أني قد نجوت وهربت لتطيب نفسها، ويقلّ جزعها وبكاؤها إن لم يكن لعودي إليها وجه، فهرب الغلام ولا يُدرى أين قصد من أرض الله، ولا إلى أي بلد وقع، قال ذلك البنّاء: وقد كان الغلام عرّفني مكان أمه وأعطاني العلامة شعره، فانتهيت إليها في الموضع الذي كان دلّني عليه، فسمعت دويّاً كدويّ النحل من البكاء، فعلمت أنها أمّه فدونت منها وعرّفتها خبر ابنها وأعطيتها شعره وانصرفت(1) .
وغيرها من الفجائع التي عاناها العليون إبّان الحكم العباسي، وقد ذاق أئمة أهل البيت (ع) ألواناً من القهر والاضطهاد حتى استشهد ستة منهم على أيدي حكام بني العباس، وكانت شهادة بعضهم في غياهب السجون، وهكذا كان بنو العباس مع بني عمهم آل أبي طالب، وقد وضع أبو الفرج الاصفهاني كتاباً سمّاه مقاتل الطالبيين ذكر فيه أسماء العشرات ممن قتل أيام بني العباس من العلويين، وأما من قتل من شيعتهم فحدّث عن ذلك ولا حرج.
ومما يحدّث به التاريخ أيضاً في العهد العثماني(2) : أن السلطان سليم كان شديد التعصب على أهل الشيعة، ولا سيما أنّه كان في تلك الأيام قد انتشرت بين رعاياه تعاليم شيعية تتنافى مع مذهب أهل السنة، وكان قد تمسك بها جماعة من الأهالي، فأمر السلطان سليم بقتل كل من يدخل في هذه الشيعة فقتلوا نحو أربعين ألف رجل، وأخرج فتوى شيخ الإسلام بأنه يؤجر على قتل الشيعة وإشهار الحرب ضدهم(3) .
ويقول الشيخ المظفّر في كتابه «تاريخ الشيعة» : ولا تسل عما لقيته الشيعة من ذريع الفتك عندما
ــــــــــــــــــــاستلبه (العراق) العثمانيون في هذه المرة (عام 1045 هـ) وهذه النكبة الكبرى إحدى النكبات الفظيعة التي شاهدها الشيعة في أدوار حياتهم من جرّاء المذهب وما أكثرها(1) .
ويستعرض جملة من النكبات التي ذهب ضحيتها الآلاف من الشيعة في مناطق أخرى ويقول: وهكذا استمر التشيع في حلب رفيع البناء، لم تقلعه تلك الهزّات العنيفة، ولم تردمه تلك العواصف الشديدة، إلى أن أفتى الشيخ نوح الحنفي في كفر الشيعة واستباحة دمائهم وأموالهم تابوا أو لم يتوبوا، فزحفوا على شيعة حلب وأبادوا منهم أربعين ألفاً أو يزيدون، وانتهبت أموالهم، وأخرج الباقون منهم من ديارهم ... واختبأ الشيعة في أطراف حلب في هذه القرى والبلدان، ولم يبق في حلب شيعي أبداً ... ويوجد اليوم في حلب قليل من الشيعة سكنوها بعد تلك الحادثة المؤلمة، وهذه إحدى الوقائع الممضّة التي شاهدها الشيعة من أجل ولائهم لأهل البيت وتمسكهم بعرى مذهبهم ... وهاجم الأمير ملحم بن الأمير حدير بسبب هذه الفتوى جبال عاملة عام (1048 هـ) ، فانتهك الحرمات واستباح المحرمات يوم وقعة قرية أنصار فلا تسل عما أراق من دماء، واستلب من أموال، وانتهك من حريم، فقد قتل ألفاً وخمسمائة، وأسر ألفاً وأربعمائة، فلم يرجعوا حتى هلك في الكنيف ببيروت(2) .
وأما الجرائم البشعة التي أحدثها الجزّار في لبنان وأهلك فيها الحرث والنسل فقد سود فيها صفحات من التاريخ.
ولا تكاد تقف على حقبة زمنية مرت على شيعة أهل البيت (ع) في أي بقعة من بقاع الأرض إلاّ وقد اصطبغت بدمائهم وكانوا فيها ضحايا البطش والقهر والاضطهاد، فإذا كان هذا حال الشيعة عبر التاريخ فماذا تراهم فاعلين؟؟
لقد كانت التقية أنجع وسيلة لحفاظ الشيعة على عقائدهم وأرواحهم بالقدر الممكن حيث استطاعوا من خلالها الإبقاء على أنفسهم، ولم يكن ثمّة مناص عنها إذا ما أرادوا أن يعيشوا كسائر الناس.
إنّ التقية أمر فرضته الظروف القاسية والأجواء الرهيبة التي مر بها الشيعة عبر التاريخ، وقد دفعوا إليها دفعاً اضطرهم إلى مسايرة الجائرين في الظاهر إبقاءً على أنفسهم وحفاظاً على أرواحهم وأعراضهم، وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، ولم يكن ذلك بدعاً من الفعل، ولا تنكّراً للفطرة ولا خلافاً لقوانين الإسلام وتعاليمه، ولعمر الحق إن قضية التقية أمر لا مراء فيه غير أن المغرضين أرادوا نبز الشيعة بها فكان مآلهم الخسران.
هذا كله ما لم تكن هناك مصلحة أهم من الإبقاء على النفس، وغاية أسمى يسترخص من أجلها كل ثمين، الأمر الذي يفسر لنا إقدام البعض على معانقة الموت واستقبال أهواله في عمليات فدائية
ــــــــــــــــــــولكن مع ذلك قد نجد بعض من لا يبصر أبعد من أنفه يتّخذ من التقية موضوع نبز وافتراء، فيتّهم الشيعة بالنفاق لقولهم بالتقية، لأن ملاكها إظهار خلاف ما انطوت عليه النفس وانعقد عليه القلب، وهو عبارة أخرى عن النفاق. وقد فات هذا القائل أن معنى النفاق هو عبارة عن إظهار الإيمان وإخفاء الكفر(1) ، وأما التقية فهي وسيلة اتقاء مع اطمئنان القلب بالإيمان، وقد تضطر الإنسان لإظهار الكفر ومجاراة من يخافه ويخشاه في القول والعمل، على أن القرآن الكريم قد تحدّث عن النفاق والمنافقين ووعدهم بالدرك الأسفل من النار، بينما تحدّث عن أولئك الذين مارسوا التقية فأثنى عليهم وآتاهم أجرهم مرتين، فليست التقية ـ مفهوماً ومصداقاً ـ تلتقي مع النفاس في شيء أبداً. وقد يحلو للبعض أن يصم التقية بأنها تنطوي على تنظيم سرّي يهدف إلى تقويض الدين وزعزعة أركانه ببث الأفكار الهدّامة للدين في الخفاء.
أقول: إنّ الشيعة الإمامية أتقى وأبرّ من أن تدنّس شرف ولائها لأهل البيت الطاهر (ع) بذلك، فإنها قد اعتصمت بحبل الله المتين، واستسهلت في سبيله كل عسير، وما فتىء تاريخها حافلاً بمواقف التضحية والفداء دفاعاً عن حريم الدين والمعتقد الحق.وتتهاوى كل الافتراءات التي تلصق بالشيعة في ممارستهم لهذا المبدأ، فإنها ما مارست التقية في سيرتها العملية في بعض الظروف إلاّ لأجل الإبقاء على نفوسها حيث دفعت إلى ذلك دفعاً، واضطرها إليها جور الجائرين واستبداد الظالمين، ولو أن هؤلاء الذين يحلو لهم هذا النوع من العبث السخيف لاقوا بعض ما لاقاه الشيعة في حياتهم عبر تاريخهم المرير لعرفوا وعلموا أن ما يفعله الشيعة لا يعدو الحق ولا يحيد عن الصواب.
ثم إنّ التقية حافظت على قيم الإسلام وتعاليمه، واستطاع رجال الشيعة في تاريخهم أن يساهموا في صيانة الدين والدفاع عنه والمحافظة عليه من عبث العابثين، وتكون التقية بذلك قد أسدت للدين خدمة جُلّى ستبقى آثارها حيّة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إنّ المعاناة الروحية والجسدية التي واجهها الشيعة في تاريخهم المظلوم دفعت بأئمتهم (ع) من أجل الحفاظ على شيعتهم إلى بيان الأحكام في صورتين:
الأولى: بيانها في الصورة الصريحة الواضحة، كما جاء بها النبيّ (ص) ، وكما هي في القرآن الكريم، وهي المعبر عنها بالأحكام الأوّلية، وذلك في حالات الأمن من العدو والاطمئنان من تربّصه أو انشغاله بغيرهم، وهذا ما نجده في الموسوعات الشيعية الروائية، فإنها زاخرة ببيانات الأئمة (ع) في مختلف شؤون الحياة.
الثانية: بيانها وقد ارتدت لباس التقية وهي المعبّر عنها بالأحكام الثانوية في بعض وجوهها، وذلك في حالات الخوف والتربّص بالأئمّة (ع) وشيعتهم، وقد امتزجت الروايات في التبويب والتصنيف مما أدّى إلى ظهور التعارض البدوي بينها في بعض جهاته، الأمر الذي احتاج ـ في عملية الفصل بين الصورتين ـ إلى مهارة فقهية وتضلع راسخ في معرفة ما يتناسب ومذهب أهل البيت (ع) من غيره، ورد كل حكم إلى منشئه، ويحتاج إلى قدرة علمية فائقة وذوقاً فقهياً رفيعاً لمعرفة الضوابط وعمليات الجمع بين الروايات مما جعل البحث في ذلك شاقاً وعسيراً.
وقد بحث فقهاء الإمامية قدس الله أسرارهم ـ على مر تاريخهم المعطاء ـ مسألة التقية بجميع أبعادها في جميع أبواب الفقه إلاّ أن أبحاثهم جاءت بحسب اقتضاء المناسبة فكانت مبعثرة في جميع أبواب الفقه ولم تنتظم في سلك عقد واحد، ومن هنا جاء هذا الكتاب ليكون نواة في هذا المجال، ورائد السبق في هذا المضمار حيث يقوم بحصر جميع موارد التقية في الفقه الإمامي الواردة في روايات أهل البيت (ع) على نحو استدلالي لوحظت فيه جميع الأدلة الأخرى.