بسم الله الرحمن الرحيم

بحوث حول الرجعة

مفهوم الرجعة(1) له أنحاء ثلاثة:

النحو الأول: رجوع الروح إلى الجسد في عالم القيامة: وهو ما يسمى بيوم البعث، حيث تعود هذه الروح إلى الجسد الذي كانت تسكنه من قبل، فيحاسب بما کسب في حياته من أعمال صالحة أو طالحة، لتجزى کل نفس بما کسبت من خير أو شر.

النحو الثاني: رجوع الروح إلى الجسد المثالي لا الحقيقي في عالم البرزخ: وفي هذه الحياة البرزخية تجري للمکلف في قبره عملية المساءلة بما فعل في طيلة حياته.

النحو الثالث: رجوع الروح إلى الجسد في عالم الدنيا: فيحيا في هذه الدنيا مدة، ثم بعد ذلك يدرکه الموت.

وهذا النحو الثالث هو فصل الخطاب ومحل الکلام هنا؛ إذ الخلاف بين المسلمين في النحو الثالث، دون النحوين الأوليين

وتعتبر مسألة الرجعة من أمهات المسائل العقائدية، والتي دار حولها الجدل والكلام بين المسلمين، وقد تظافر نقل اجماع علماء الطائفة الإمامية على الرجعة، ولم يظهر منهم مخالف يعتد به من العلماء، ودخول المعصوم في الإجماع المذكور متحقق؛ فإن ما ورد من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وعترته الطاهرين عليهم السلام والدالة على صحة الرجعة، وقد ورد عن الإمام الحجة محمد ابن الحسن المهدي عليه السلام بما يتعلق بمسألة الرجعة في التوقيعات الواردة عنه، رغم قلة ما ورد عنه في هذا الباب، قياساً إلى ما ورد من الكثرة عن آبائه عليهم السلام. وينفرد الإماميون في قضية الإعتقاد بالرجعة عن غيرهم من بقية الفرق الإسلامية ؛ لما ورد وصح من الأحاديث الكثيرة المروية عن أهل البيت عليهم السلام.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ الرجعة بعد الموت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصفحة 1ـــــــــــــــــ

وقد نقل جملة من المحققين والعلماء تواتر أحاديث الرجعة، مضافاً إلى شهرة هذه العقيدة عند الشيعة منذ صدر الإسلام، وأنها أصبحت من العقائد الظاهرة والبارزة عندهم، في إمكانها ووقوعها في الدنيا، ونکران البعض أوتجهالهم لها لايوجب خروجهم عن الدين أو المذهب، بل الإيمان بها دليل الإيمان بالقدرة الإلهية، حتى عدها البعض من علمائنا أنها من ضرورات المذهب(1)، رغم أن مخالفينا من السنة كانوا وما زالوا يسخرون منها، ويعتبرونها من المفاهيم الباطلة، وينكرونها إنكار من يراها مستحيلة، وهو ما يعبر عنهم بالمنكرين للرجعة. ولكن سيأتي مفصلاً أن هؤلاء المنكرون يؤمنون بالرجعة أيضاً وليس الشيعة فقط .

وقد أثبتت الأدلة النقلية من الکتاب والسنة على وقوعها وإمكانها في الجملة، حيث هناك من الآيات القرانية والأحاديث الكثيرة المروية عن النبي وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام والتي تقرب من مائتي حديث، وقد رواها نيف وأربعون من الثقات وكبار العلماء، واثبتوها في مؤلفاتهم، كثقة الإسلام الكليني، والصدوق، والطوسي، والسيد المرتضى، والسيد ابن طاووس وغيرهم من أعلام وأقطاب المذهب. وقد حث أهل البيت عليهم السلام المؤمنين على الإيمان بها، حتى ورد عن الإمام الصادق عليه السلام : «ليس منا من لم يؤمن بكرتنا، ويستحل متعتنا(2) »(3).


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يدعي البعض: إنّ العقيدة بالرجعة ليست من ضرورات المذهب أو مسلماته، سواء كانت بخصوص الأئمة عليهم السلام أو من بلغوا درجات الإيمان المحضة.
2 ـ عطف على المنفي أي لم يستحل متعتنا التي حكمنا بجوازها. وقوله عليه السلام: " لم يؤمن بكرتنا " أي برجعتنا.
3ـ من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق 3 : 458 .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصفحة 2 ـــــــــــــــــــ

والرجعة في اللغة تعني الرجوع، وفلان يؤمن بالرجعة أي بالرجوع إلى الدنيا بعد الموت 1. والذي تذهب إليه الإمامية هو نفس المعنى المذكور في اللغة، أي العود إلى الدنيا بعد الموت، ولكن الرجعة التي تكون في الدنيا إنما هي قبل البعث والنشور.

وأما الرجعة في الاصطلاح: فهي تعني عندنا الحياة بعد الموت قبل يوم القيامة، بمعنی رجوع الحجج الإلهية ورجوع الأئمة الطاهرين عليهم السلام ورجوع ثلة من المؤمنين وغيرهم إلى الدنيا، أي أن الرجعة تختص بمن علت درجته في الإيمان، وكثرت أعماله الصالحات، وخرج من الدنيا على اجتناب الكبائر الموبقات، فيريه الله عز وجل دولة الحق ويعزه بها ويعطيه من الدنيا ما كان يتمناه، والآخر من بلغ الغاية في الفساد وكثر ظلمه لأولياء الله واقترافه السيئات، فينتصر الله تعالى لمن تعدى عليه قبل الممات، ويشفي غيظهم منه بما يحله من النقمات ، وهذا كله يتحقق بعد قيام دولة المهدي عجل الله فرجه.

إلا أن البعض من الإمامية أولوا الرجعة الواردة في الأخبار إلى غير معناها، وفسروها برجوع دولة الحق لا رجوع الأموات بأعيانهم وأشخاصهم التي كانوا عليها في الدنيا. وهذا التفسير أو التأويل شاذ لا يقول به مشهور الإمامية، بل ومخالف لصريح ما ورد في القران والروايات وما صرح به علماء الطائفة الإمامية(1).

قال المفيد: إن الذي تذهب إليه الشيعة الإمامية، أن الله تعإلى يعيد عند ظهور المهدي عجل الله فرجه قوماً ممن كان تقدم موته من شيعته وقوماً من أعدائه(2).

وفي موضع آخر أيضاً قال: اتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة، وإن كان بينهم في معنى الرجعة اختلاف(3).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ أنظر: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي - أحمد بن محمد المقري الفيومي 1 : 220، القاموس 3: 28، مثله في صحاح اللغة للجوهري 3: 1216، معيار اللغة ـ للشيرازي، مادة رجعة، الرجعة في أحاديث الفريقين ـ الشيخ نجم الدين الطبسي: 4 ، مجمع البحرين ـ الطريحي 2 :150 ـ 151.
2 ـ أنظر: أوائل المقالات ـ المفيد: 78 ،
3 ـ أوائل المقالات ـ للمفيد: 293، أعيان الشيعة، 1، 132.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصفحة 3 ــــــــــــــــ

إن ما أشار إليه المفيد " بالاختلاف " هنا، لعل مراده هو تأويل بعض الشيعة الإمامية، للأخبار المستفيضة في الرجعة إلى رجوع دولة الحق، ورجوع الأمر والنهي إلى الأئمة عليهم السلام وإلى شيعتهم واخذهم بمجاري الأمور، دون رجوع أعيان الأشخاص.

وهذا ما أشار إليه الشيخ الصدوق في قوله: وإن قوماً من الشيعة تأولوا الرجعة على معناها: رجوع الدولة والأمر والنهي من دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات(1).

إذن؛ إنّ الله تعالى يعيد في آخر الزمان عند قيام دولة مولانا حجة الله في الأرض محمد بن الحسن المهدي عجل الله فرجه طائفة من الأموات إلى الدنيا ممّن محضوا الإيمان محضاً أو محضوا الكفر محضاً، فينتصر لأهل الحق من أهل الباطل، کما في قوله الله تعإلى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}(2).

وستأتي بقية أبحاث الرجعة والتي تناولها سماحة آية الله الشيخ مسلم الداوري (حفظه الله) لما لها من ابحاث عقائدية تربط الإنسان بإمامه الموعود المنتظر، مع استعراض أدلتها، ومناقشة الشبهات الواردة عليها إن شاء الله تعالى.


مؤسسة الإمام الرضا عليه السلام للبحث والتحقيق العلمي ـ قم المقدسة


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الاعتقادات ـ للصدوق: 76.
2 ـ غافر: 11.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصفحة 4 ــــــــــــــــ